سورة هود - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (هود)


        


قوله: {الر}: إن كان مسروداً على سبيل التعديد كما في سائر فواتح السور فلا محل له، وإن كان اسماً للسورة فهو في محل رفع على أنه مبتدأ خبره ما بعده أو خبر مبتدأ محذوف، و{كِتَابٌ} يكون على هذا الوجه خبراً لمبتدأ محذوف: أي هذا كتاب، وكذا على تقدير أن {الر} لا محل له، ويجوز أن يكون {الر} في محل نصب بتقدير فعل يناسب المقام نحو: اذكر، أو اقرأ، فيكون {كتاب} على هذا الوجه خبر مبتدأ محذوف، والإشارة في المبتدأ المقدّر إما إلى بعض القرآن أو إلى مجموع القرآن، ومعنى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُه} صارت محكمة متقنة، لا نقص فيها ولا نقض لها كالبناء المحكم، وقيل معناه: إنها لم تنسخ بخلاف التوراة والإنجيل، وعلى هذا فيكون هذا الوصف للكتاب باعتبار الغالب، وهو المحكم الذي لم ينسخ؛ وقيل معناه: أحكمت آياته بالأمر والنهي، ثم فصلت بالوعد والوعيد، والثواب والعقاب. وقيل: أحكمها الله من الباطل، ثم فصلها بالحلال والحرام. وقيل: أحكمت جملته، ثم فصلت آياته. وقيل: جمعت في اللوح المحفوظ، ثم فصلت بالوحي. وقيل: أيّدت بالحجج القاطعة الدالة على كونها من عند الله؛ وقيل معنى إحكامها: أن لا فساد فيها، أخذاً من قولهم أحكمت الدابة: إذا وضعت عليها الحكمة لتمنعها من الجماح، و{ثُمَّ فُصّلَتْ} معطوف على {أحكمت} ومعناه ما تقدّم، والتراخي المستفاد من {ثم} إما زماني إن فسر التفصيل بالتنجيم على حسب المصالح، وإما رتبيّ إن فسر بغيره مما تقدّم، والجمل في محل رفع على أنها صفة لكتاب، أو خبر آخر للمبتدأ أو خبر لمبتدأ محذوف، وفي قوله: {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} لف ونشر، لأن المعنى: أحكمها حكيم، وفصلها خبير عالم بمواقع الأمور.
قوله: {أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} مفعول له حذف منه اللام: كذا في الكشاف، وفيه أنه ليس بفعل لفاعل الفعل المعلل. وقيل: (أن) هي المفسرة لما في التفصيل من معنى القول. وقيل: هو كلام مبتدأ منقطع عما قبله، محكياً على لسان النبيّ صلى الله عليه وسلم. قال الكسائي والفراء: التقدير أحكمت بأن لا تعبدوا إلا الله.
وقال الزجاج: أحكمت ثم فصلت لئلا تعبدوا إلا الله، ثم أخبرهم رسول الله بأنه نذير وبشير، فقال: {إِنَّنِى لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} أي: ينذرهم ويخوّفهم من عذابه لمن عصاه، ويبشرهم بالجنة والرضوان لمن أطاعه، والضمير في {منه} راجع إلى الله سبحانه. أي إنني لكم نذير وبشير من جهة الله سبحانه؛ وقيل: هو من كلام الله سبحانه كقوله: {وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} [آل عمران: 28].
قوله: {وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ} معطوف على ألا تعبدوا، والكلام في أن هذه كالكلام في التي قبلها.
وقوله: {ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} معطوف على {استغفروا} وقدم الإرشاد إلى الاستغفار على التوبة، لكونه وسيلة إليها. وقيل: إن التوبة من متممات الاستغفار؛ وقيل معنى {استغفروا}: توبوا. ومعنى {توبوا}: أخلصوا التوبة واستقيموا عليها. وقيل: استغفروا من سالف الذنوب، ثم توبوا من لاحقها. وقيل: استغفروا من الشرك، ثم ارجعوا إليه بالطاعة. قال الفراء: {ثم} هاهنا بمعنى الواو: أي وتوبوا إليه، لأن الاستغفار هو: التوبة، والتوبة هي: الاستغفار؛ وقيل: إنما قدم ذكر الاستغفار لأن المغفرة هي الغرض المطلوب، والتوبة. هي: السبب إليها، وما كان آخراً في الحصول، كان أوّلاً في الطلب. وقيل: استغفروا في الصغائر، وتوبوا إليه في الكبائر؛ ثم رتب على ما تقدّم أمرين الأول: {يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا} أصل الإمتاع: الإطالة، ومنه أمتع الله بك؛ فمعنى الآية: يطول نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية من سعة الرزق ورغد العيش {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} إلى وقت مقدّر عند الله، وهو: الموت؛ وقيل: القيامة؛ وقيل: دخول الجنة؛ والأوّل: أولى. والأمر الثاني قوله: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} أي: يعط كل ذي فضل في الطاعة والعمل فضله: أي جزاء فضله، إما في الدنيا، أو في الآخرة، أو فيهما جميعاً، والضمير في {فضله} راجع إلى كل ذي فضل. وقيل: راجع إلى الله سبحانه على معنى أن الله يعطي كل من فضلت حسناته فضله الذي يتفضل به على عباده. ثم توعدهم على مخالفة الأمر فقال: {وَإِن تَوَلَّوْاْ} أي: تتولوا وتعرضوا عن الإخلاص في العبادة، والاستغفار، والتوبة {فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} وهو: يوم القيامة، ووصفه بالكبر، لما فيه من الأهوال. وقيل: اليوم الكبير يوم بدر.
ثم بين سبحانه عذاب اليوم الكبير بقوله: {إلى الله مَرْجِعُكُمْ} أي: رجوعكم إليه بالموت، ثم البعث، ثم الجزاء، لا إلى غيره {وَهُوَ على كُلّ شَئ قَدِيرٌ} ومن جملة ذلك عذابكم على عدم الامتثال، وهذه الجملة مقرّرة لما قبلها. ثم أخبر الله سبحانه بأن هذا الإنذار والتحذير والتوعد لم ينجع فيهم، ولا لانت له قلوبهم، بل هم مصرّون على العناد مصممون على الكفر، فقال مصدراً لهذا الإخبار بكلمة التنبيه الدالة على التعجب من حالهم، وأنه أمر ينبغي أن يتنبه له العقلاء ويفهموه {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} يقال: ثني صدره عن الشيء: إذا ازورّ عنه وانحرف منه، فيكون في الكلام كناية عن الإعراض؛ لأن من أعرض عن الشيء ثنى عنه صدره، وطوى عنه كشحه. وقيل معناه: يعطفون صدورهم على ما فيها من الكفر والإعراض عن الحق، فيكون في الكلام كناية عن الإخفاء لما يعتقدونه من الكفر، كما كان دأب المنافقين.
والوجه الثاني أولى، ويؤيده قوله: {لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ} أي: ليستخفوا من الله، فلا يطلع عليه رسوله والمؤمنين، أو ليستخفوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ثم كرّر كلمة التنبيه مبيناً للوقت الذي يثنون فيه صدورهم، فقال: {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} أي: يستخفون في وقت استغشاء الثياب، وهو التغطي بها، وقد كانوا يقولون: إذا أغلقنا أبوابنا، واستغشينا ثيابنا، وثنينا صدورنا على عداوة محمد فمن يعلم بنا؟ وقيل: معنى {حين يستغشون}: حين يأوون إلى فراشهم، ويتدثرون بثيابهم. وقيل: إنه حقيقة: وذلك أن بعض الكفار كان إذا مرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثنى صدره، وولى ظهره، واستغشى ثيابه، لئلا يسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجملة: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} مستأنفة لبيان أنه لا فائدة لهم في الاستخفاء؛ لأن الله سبحانه يعلم ما يسرّونه في أنفسهم، أو في ذات بينهم وما يظهرونه؛ فالظاهر والباطن عنده سواء، والسرّ والجهر سيان، وجملة: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} تعليل لما قبلها وتقرير له، و{ذات الصدور} هي: الضمائر التي تشتمل عليها الصدور. وقيل: هي القلوب، والمعنى: إنه عليم بجميع الضمائر، أو عليم بالقلوب وأحوالها في الإسرار والإظهار، فلا يخفى عليه شيء من ذلك.
ثم أكد كونه عالماً بكل المعلومات بما فيه غاية الامتنان، ونهاية الإحسان، فقال: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} أي: الرزق الذي تحتاج إليه من الغذاء اللائق بالحيوان، على اختلاف أنواعه تفضلاً منه وإحساناً، وإنما جيء به على طريق الوجوب، كما تشعر به كلمة {على} اعتباراً بسبق الوعد به منه، و{من} زائدة للتأكيد، ووجه اتصال هذا الكلام بما قبله: أن الله سبحانه لما كان لا يغفل عن كل حيوان باعتبار ما قسمه له من الرزق، فكيف يغفل عن أحواله، وأقواله، وأفعاله. والدابة: كل حيوان يدب {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا} أي: محل استقرارها في الأرض، أو محل قرارها في الأصلاب {وَمُسْتَوْدَعَهَا} موضعها في الأرحام، وما يجري مجراها كالبيضة ونحوها.
وقال الفراء: مستقرها: حيث تأوي إليه ليلاً ونهاراً، ومستودعها: موضعها الذي تموت فيه، وقد مرّ تمام الأقوال في سورة الأنعام، ووجه تقدّم المستقر على المستودع على قول الفراء ظاهر. وأما على القول الأوّل: فلعل وجه ذلك أن المستقر أنسب باعتبار ما هي عليه حال كونها دابة. والمعنى: وما من دابة في الأرض إلا يرزقها الله حيث كانت من أماكنها بعد كونها دابة، وقبل كونها دابة، وذلك حيث تكون في الرحم ونحوه. ثم ختم الآية بقوله: {كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ} أي: كل من ما تقدّم ذكره من الدوّاب، ومستقرّها ومستودعها، ورزقها في كتاب مبين، وهو اللوح المحفوظ: أي مثبت فيه.
ثم أكد دلائل قدرته بالتعرّض لذكر خلق السموات والأرض، وكيف كان الحال قبل خلقها فقال: {وَهُوَ الذى خَلَقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} قد تقدّم بيان هذا في الأعراف، قيل: والمراد بالأيام: الأوقات: أي في ستة أوقات، كما في قوله: {وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] وقيل: مقدار ستة أيام، ولا يستقيم أن يكون المراد بالأيام هنا الأيام هنا الأيام المعروفة، وهي المقابلة لليالي، لأنه لم يكن حينئذ لا أرض ولا سماء، وليس اليوم إلا عبارة عن مدّة كون الشمس فوق الأرض، وكان خلق السموات في يومين، والأرضين في يومين، وما عليهما من أنواع الحيوان والنبات والجماد، في يومين، كما سيأتي في حم السجدة. قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء} أي: كان قبل خلقهما عرشه على الماء، وفيه بيان تقدّم خلق العرش والماء على السموات والأرضين.
قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} اللام متعلقة بخلق: أي خلق هذه المخلوقات ليبتلي عباده بالاعتبار والتفكر والاستدلال، على كمال قدرته، وعلى البعث والجزاء أيهم أحسن عملاً فيما أمر به ونهى عنه، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويوفر الجزاء لمن كان أحسن عملاً من غيره، ويدخل في العمل الاعتقاد، لأنه من أعمال القلب. وقيل: المراد بالأحسن عملاً: الأتمّ عقلاً، وقيل: الأزهد في الدنيا. وقيل: الأكثر شكراً، وقيل: الأتقى لله. قوله: {وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الموت لَيَقُولَنَّ الذين كَفَرُواْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} ثم لما كان الابتلاء يتضمن حديث البعث أتبع ذلك بذكره، والمعنى: لئن قلت لهم يا محمد على ما توجبه قضية الابتلاء، إنكم مبعوثون من بعد الموت، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ليقولن الذين كفروا من الناس إن هذا الذي تقوله يا محمد إلا باطل كبطلان السحر، وخدع كخدعه. ويجوز أن تكون الإشارة ب {هذا} إلى القرآن؛ لأنه المشتمل على الإخبار بالبعث. وقرأ حمزة والكسائي {إِنْ هذا إِلاَّ ساحر} يعنون النبي صلى الله عليه وسلم، وكسرت (أن) من قوله: {إِنَّكُمْ} لأنها بعد القول.
وحكى سيبويه الفتح على تضمين {قلت} معنى: ذكرت، أو على (أن) بمعنى: علّ: أي ولئن قلت لعلكم مبعوثون، على أن الرجاء باعتبار باعتبار حال المخاطبين: أي توقعوا ذلك، ولا تبتوا القول بإنكاره.
{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُم العذاب} أي: الذي تقدّم ذكره في قوله: {عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} وقيل: عذاب يوم القيامة وما بعده، وقيل يوم بدر {إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} أي: إلى طائفة من الأيام قليلة؛ لأن ما يحصره العدّ قليل، والأمة اشتقاقها من الأم: وهو القصد، وأراد بها الوقت المقصود لإيقاع العذاب. وقيل: هي في الأصل الجماعة من الناس، وقد يسمى الحين باسم مايحصل فيه، كقولك: كنت عند فلان صلاة العصر: أي في ذلك الحين، فالمراد على هذا: إلى حين تنقضى أمة معدودة من الناس {لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} أي أيّ شيء يمنعه من النزول استعجالا له على جهة الاستهزاء والتكذيب، فأجابهم الله بقوله: {ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم} أي: ليس محبوساً عنهم، بل واقع بهم لا محالة، و{يوم} منصوب ب {مصروفاً} {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ} أي: أحاط بهم العذاب الذي كانوا يستعجلونه استهزاء منهم، ووضع يستهزءون مكان يستعجلون، لأن استعجالهم كان استهزاء منهم، وعبر بلفظ الماضي تنبيهاً على تحقق وقوعه، فكأنه قد حاق بهم.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن زيد، أنه قرأ: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءاياته} قال: هي كلها محكمة، يعني سورة هود {ثُمَّ فُصّلَتْ} قال: ثم ذكر محمداً صلى الله عليه وسلم، فحكم فيها بينه وبين من خالفه، وقرأ: {مثل الفريقين} الآية كلها [هود: 24]، ثم ذكر قوم نوح ثم هود، فكان هذا تفصيل ذلك، وكان أوّله محكماً قال: وكان أبي يقول ذلك، يعني: زيد بن أسلم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن الحسن، في قوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءاياته} قال: أحكمت بالأمر والنهي، وفصلت بالوعد والوعيد، وأخرج هؤلاء عن مجاهد {فُصّلَتْ} قال: فسرت.
وأخرج هؤلاء أيضاً عن قتادة في الآية قال: أحكمها الله من الباطل، ثم فصلها بعلمه، فبين حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته، وفي قوله: {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ} يعني من عند حكيم، وفي قوله: {يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا} قال: فأنتم في ذلك المتاع، فخذوه بطاعة الله ومعرفة حقه، فإن الله منعم يحبّ الشاكرين، وأهل الشكر في مزيد من الله، وذلك قضاؤه الذي قضاه. وفي قوله: {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} يعني: الموت، وفي قوله: {يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} أي: في الآخرة.
وأخرج هؤلاء أيضاً عن مجاهد في قوله: {يؤت كل ذي فضل فضله}: أي في الآخرة.
وأخرج أبو الشيخ، عن الحسن قال: يؤت كل ذي فضل في الإسلام فضل الدرجات في الآخرة.
وأخرج ابن جرير، عن ابن مسعود، في قوله: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} قال: من عمل سيئة كتبت عليه سيئة، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات، فإن عوقب بالسيئة التي عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات، وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر واحدة، وبقيت له تسع حسنات، ثم يقول: هلك من غلب آحاده أعشاره.
وأخرج البخاري وغيره، عن ابن عباس، في قوله: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} الآية قال: كانوا يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء، وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء، فنزل ذلك فيهم. قال البخاري، وعن ابن عباس: {يَسْتَغْشُونَ} يغطون رؤوسهم.
وروى البخاري أيضاً عن ابن عباس في تفسير هذه الآية، يعني به الشك في الله، وعمل السيئات، وكذا روي عن مجاهد والحسن وغيرهما: أي أنهم كانوا يثنون صدورهم إذا قالوا شيئاً أو عملوه، فيظنون أنهم يستخفون من الله بذلك، فأعلمهم سبحانه أنه حين يستغشون ثيابهم عند منامهم في ظلمة الليل {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} من القول: {وَمَا يُعْلِنُونَ}.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، في قوله: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} قال: كان المنافقون إذا مرّ أحدهم بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ثنى صدره، وتغشى ثوبه، لكيلا يراه، فنزلت.
وأخرج ابن جرير، عن الحسن، في قوله: {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} قال: في ظلمة الليل في أجواف بيوتهم.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن أبي رزين في الآية قال: كان أحدهم يحني ظهره ويستغشى بثوبه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة، في الآية قال: كانوا يخبون صدورهم لكيلا يسمعوا كتاب الله، قال تعالى: {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} وذلك أخفى ما يكون ابن آدم إذا أحنى ظهره، واستغشى بثوبه، وأضمر همه في نفسه، فإن الله لا يخفى عليه ذلك.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال في الآية: يكتمون ما في قلوبهم ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما عملوا بالليل والنهار.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {وَمَا مِن دَابَّةٍ} الآية قال: يعني كل دابة.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {وَمَا مِن دَابَّةٍ} الآية قال: يعني ما جاءها من رزق فمن الله، وربما لم يرزقها حتى تموت جوعاً، ولكن ما كان لها من رزق لها فمن الله.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا} قال: حيث تأوى، و{مستودعها} قال: حيث تموت.
وأخرج ابن أبي حاتم، عنه {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا} قال: يأتيها رزقها حيث كانت.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، عن ابن مسعود، قال: مستقرّها في الأرحام، ومستودعها حيث تموت. ويؤيد هذا التفسير الذي ذكره ابن مسعود ما أخرجه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان أجل أحدكم بأرض أتيحت له إليها حاجة، حتى إذا بلغ أقصى أثره منها فيقبض، فتقول الأرض يوم القيامة: هذا ما استودعتني».
وأخرج عبد الرزاق في المصنف، والفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، والبيهقي في الأسماء والصفات، عن ابن عباس، أنه سئل عن قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء} على أيّ شيء كان الماء؟ قال: على متن الريح.
وقد وردت أحاديث كثيرة في صفة العرش، وفي كيفية خلق السموات والأرض ليس هذا موضع ذكرها.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم في التاريخ، وابن مردويه، عن ابن عمر، قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} فقال: ما معنى ذلك يا رسول الله؟ قال: {ليبلوكم أيكم أحسن عقلاً} ثم قال: «وأحسنكم عقلاً أورعكم عن محارم الله، وأعملكم بطاعة الله».
وأخرج ابن أبي حاتم، عن قتادة، قال: إنكم أتمّ عقلاً.
وأخرج أيضاً عن سفيان قال: أزهدكم في الدنيا.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة، قال: لما نزلت: {اقترب لِلنَّاسِ حسابهم} [الأنبياء: 1] قال ناس: إن الساعة قد اقتربت فتناهوا، فتناهى القوم قليلاً ثم عادوا إلى أعمالهم أعمال السوء، فأنزل الله: {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1] فقال ناس من أهل الضلال: هذا أمر الله قد أتى، فتناهى القوم ثم عادوا إلى مكرهم، مكر السوء، فأنزل الله هذه الآية: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، عن ابن عباس، في قوله: {إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} قال: إلى أجل معدود.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة {لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} يعني أهل النفاق.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن السديّ، في قوله: {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ} يقول: وقع بهم العذاب الذي استهزءوا به.


اللام في: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان} هي الموطئة للقسم، والإنسان الجنس، فيشمل المؤمن والكافر، ويدل على ذلك الاستثناء بقوله: {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ} وقيل: المراد: جنس الكفار، ويؤيده أن اليأس والكفران والفرح والفخر، هي أوصاف أهل الكفر لا أهل الإسلام في الغالب. وقيل المراد بالإنسان: الوليد بن المغيرة. وقيل: عبد الله بن أمية المخزومي. والمراد بالرحمة هنا: النعمة من توفير الرزق والصحة والسلامة من المحن {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ} أن سلبناه إياها {إِنَّهُ لَيَئُوسٌ} أي: آيس من الرحمة، شديد القنوط من عودها، وأمثالها، والكفور: عظيم الكفران، وهو الجحود بها قاله ابن الأعرابي؛ وفي إيراد صيغتي المبالغة في {لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} ما يدلّ على أن الإنسان كثير اليأس، وكثير الجحد عند أن يسلبه الله بعض نعمه، فلا يرجو عودها، ولا يشكر ما قد سلف له منها. وفي التعبير بالذوق ما يدل على أنه يكون منه ذلك عند سلب أدنى نعمة ينعم الله بها عليه، لأن الإذاقة والذوق: أقلّ ما يوجد به الطعم، والنعماء: إنعام يظهر أثره على صاحبه، والضرّاء: ظهور أثر الإضرار على من أصيب به. والمعنى: أنه إن أذاق الله سبحانه العبد نعماءه من الصحة والسلامة، والغنى بعد أن كان في ضرّ من فقر أو مرض أو خوف، لم يقابل ذلك بما يليق به من الشكر لله سبحانه، بل يقول ذهب السيئات: أي المصائب التي ساءته من الضرّ والفقر والخوف والمرض عنه وزال أثرها، غير شاكر لله، ولا مثن عليه بنعمه {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} أي: كثير الفرح بطراً وأشراً، كثير الفخر على الناس، والتطاول عليهم بما يتفضل الله به عليه من النعم، وفي التعبير عن ملابسة الضرّ له بالمس مناسبة للتعبير في جانب النعماء بالإذاقة، فإن كلاهما لأدنى ما يطلق عليه اسم الملاقاة، كما تقدّم {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ} فإن عادتهم الصبر عند نزول المحن، والشكر عند حصول الممن. قال الأخفش: هو استثناء ليس من الأوّل: أي ولكن الذين صبروا وعملوا الصالحات في حالتي النعمة والمحنة.
وقال الفراء؛ هو استثناء من لئن أذقناه: أي من الإنسان، فإن الإنسان بمعنى الناس، والناس: يشمل الكافر والمؤمن، فهو استثناء متصل، والإشارة بقوله: {أولئك} إلى الموصول باعتبار اتصافه بالصبر وعمل الصالحات {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} لذنوبهم {وَأَجْرٌ} يؤجرون به لأعمالهم الحسنة {كَبِيرٌ} متناه في الكبر.
ثم سلَّى الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ} أي: فلعلك لعظم ما تراه منهم من الكفر والتكذيب، واقتراح الآيات التي يقترحونها عليه على حسب هواهم، وتعنتهم تارك بعض ما يوحى إليك مما أنزله الله عليك وأمرك بتبليغه، مما يشق عليهم سماعه أو يستشقون العمل به، كسبّ آلهتهم وأمرهم بالإيمان بالله وحده.
قيل: وهذا الكلام خارج مخرج الاستفهام: أي هل أنت تارك؟ وقيل: هو في معنى النفي مع الاستبعاد: أي لا يكون منك ذلك، بل تبلغهم جميع ما أنزل الله عليك، أحبوا ذلك أم كرهوه، شاءوا أم أبوا {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} معطوف على {تارك} والضمير في {به} راجع إلى {ما} أو إلى {بعض} وعبر بضائق دون ضيق لأن اسم الفاعل فيه معنى الحدوث والعروض والصفة المشبهة فيها معنى اللزوم {أَن يَقُولُواْ} أي: كراهة أن يقولوا، أو مخافة أن يقولوا أو لئلا يقولوا {لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ} أي: هلا أنزل عليه كنز: أي مال مكنوز مخزون ينتفع به {أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ} يصدّقه ويبين لنا صحة رسالته. ثم بيّن سبحانه أن حاله صلى الله عليه وسلم مقصور على النذارة، فقال: {إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ} ليس عليك إلا الإنذار بما أوحي إليك، وليس عليك حصول مطلوبهم وإيجاد مقترحاتهم {والله على كُلّ شَئ وَكِيلٌ} يحفظ ما يقولون، وهو فاعل بهم ما يجب أن يفعل.
قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} {أم} هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة، وأضرب عما تقدّم من تهاونهم بالوحي، وعدم قنوعهم بما جاء به من المعجزات الظاهرة، وشرع في ذكر ارتكابهم لما هو أشدّ من ذلك، وهو افتراؤهم عليه بأنه افتراه، والاستفهام للتوبيخ والتقريع، والضمير المستتر في {افتراه} للنبي صلى الله عليه وسلم، والبارز إلى ما يوحى. ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عليهم بما يقطعهم ويبين كذبهم ويظهر به عجزهم، فقال: {قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ} أي: مماثلة له في البلاغة، وحسن النظم، وجزالة اللفظ، وفخامة المعاني. ووصف السور بما يوصف به المفرد، فقال: مثله، ولم يقل أمثاله، لأن المراد مماثلة كل واحد من السور، أو لقصد الإيماء إلى وجه الشبه، ومداره المماثلة في شيء واحد، وهو البلاغة البالغة إلى حدّ الإعجاز، وهذا إنما هو على القول بأن المطابقة في الجمع والتثنية، والإفراد شرط، ثم وصف السور بصفة أخرى، فقال: {مُفْتَرَيَاتٍ وادعوا} للاستظهار على المعارضة بالعشر السور {مَنِ استطعتم} دعاءه، وقدرتم على الاستعانة به، من هذا النوع الإنساني، وممن تعبدونه وتجعلونه شريكاً لله سبحانه. وقوله: {مِن دُونِ الله} متعلق ب {ادعوا}: أي ادعوا من استطعتم متجاوزين الله تعالى: {إِن كُنتُمْ صادقين} فيما تزعمون من افترائي له.
{فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} أي: فإن لم يفعلوا ما طلبته منهم، وتحدّيتهم به من الإتيان بعشر سور مثله، ولا استجابوا إلى المعارضة المطلوبة منهم، ويكون الضمير في {لكم} لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، أو للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، وجمع تعظيماً وتفخيماً {فاعلموا} أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أو للرسول صلى الله عليه وسلم وحده على التأويل الذي سلف قريباً.
ومعنى أمرهم بالعلم، أمرهم بالثبات عليه؛ لأنهم عالمون بذلك من قبل عجز الكفار عن الإتيان بعشر سور مثله، أو المراد بالأمر بالعلم: الأمر بالازدياد منه، إلى حدّ لا يشوبه شك، ولا تخالطه شبهة، وهو علم اليقين. والأوّل: أولى. ومعنى: {أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ الله} أنه أنزل متلبساً بعلم الله المختص به، الذي لا تطلع على كنهه العقول، ولا تستوضح معناه الأفهام، لما اشتمل عليه من الإعجاز الخارج عن طوق البشر {وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ} أي: واعلموا أن الله هو المتفرد بالألوهية لا شريك له، ولا يقدره غيره على ما يقدر عليه. ثم ختم الآية بقوله: {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} أي: ثابتون على الإسلام، مخلصون له، مزدادون من الطاعات، لأنه قد حصل لكم بعجز الكفار عن الإتيان بمثل عشر سور من هذا الكتاب طمأنينة فوق ما كنتم عليه، وبصيرة زائدة، وإن كنتم مسلمين من قبل هذا فإن الثبوت عليه وزيادة البصيرة فيه والطمأنينة به مطلوب منكم. وقيل: إن الضمير في {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ} للموصول في {من استطعتم} وضمير {لكم} للكفار، الذين تحدّاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك ضمير {فاعلموا} والمعنى: فإن لم يستجب لكم من دعوتموهم للمعاضدة والمناصرة على الإتيان بعشر سور من سائر الكفار ومن يعبدونهم، ويزعمون أنهم يضرّون وينفعون، فاعلموا أن هذا القرآن الذي أنزله الله على هذا الرسول، خارج عن قدرة غيره سبحانه وتعالى، لما اشتمل عليه من الإعجاز الذي تتقاصر دونه قوّة المخلوقين، وأنه أنزل بعلم الله الذي لا تحيط به العقول، ولا تبلغه الأفهام، واعلموا أنه المنفرد بالألوهية لا شريك له، فهل أنتم بعد هذا مسلمون؟ أي: داخلون في الإسلام، متبعون لأحكامه، مقتدون بشرائعه. وهذا الوجه أقوى من الوجه الأوّل من جهة، وأضعف منه من جهة، فأما جهة قوّته. فلا تساق الضمائر وتناسبها، وعدم احتياج بعضها إلى تأويل، وأما ضعفه، فَلِما في ترتيب الأمر بالعلم على عدم الاستجابة ممن دعوهم واستعانوا بهم من الخفاء واحتياجه إلى تكلف، وهو أن يقال: إن عدم استجابة من دعوهم واستعانوا بهم من الكفار والآلهة مع حرصهم على نصرهم، ومعاضدتهم، ومبالغتهم في عدم إيمانهم واستمرارهم على الكفر، يقيد حصول العلم لهؤلاء الكفار، بأن هذا القرآن من عند الله، وأن الله سبحانه هو الإله وحده لا شريك له، وذلك يوجب دخولهم في الإسلام، واعلم أنه قد اختلف التحدّي للكفار بمعارضة القرآن، فتارة وقع بمجموع القرآن، كقوله: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرءان لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88] وبعشر سور كما في هذه الآية، وذلك لأن العشرة أوّل عقد من العقود، وبسورة منه كما تقدّم، وذلك لأن السورة أقلّ طائفة منه.
ثم إن الله سبحانه توعد من كان مقصور الهمة على الدنيا لا يطلب غيرها ولا يريد سواها، فقال: {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} قال الفراء: إن {كان} هذه زائدة، ولهذا جزم الجواب.
وقال الزجاج: {من كان} في موضع جزم بالشرط، وجوابه {نوفّ إليهم}: أي من يكن يريد.
واختلف أهل التفسير في هذه الآية، فقال الضحاك: نزلت في الكفار، واختاره النحاس بدليل الآية التي بعدها {أُوْلَئِكَ الذين لَيْسَ لَهُمْ فِى الآخرة إِلاَّ النار}. وقيل: الآية واردة في الناس على العموم، كافرهم ومسلمهم. والمعنى: أن من كان يريد بعمله حظّ الدنيا يكافأ بذلك، والمراد بزينتها: ما يزينها ويحسنها من الصحة والأمن، والسعة في الرزق، وارتفاع الحظّ، ونفاذ القول، ونحو ذلك. وإدخال {كان} في الآية يفيد أنهم مستمرّون على إرادة الدنيا بأعمالهم، لا يكادون يريدون الآخرة، ولهذا قيل: إنهم مع إعطائهم حظوظ الدنيا يعذّبون في الآخرة، لأنهم جرّدوا قصدهم إلى الدنيا، ولم يعملوا للآخرة. وظاهر قوله: {نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} أن من أراد بعمله الدنيا حصل له الجزاء الدنيوي ولا محالة، ولكن الواقع في الخارج يخالف ذلك، فليس كل متمنّ ينال من الدنيا أمنيته، وإن عمل لها وأرادها، فلا بد من تقييد ذلك بمشيئة الله سبحانه. قال القرطبي: ذهب أكثر العلماء إلى أن هذه الآية مطلقة، وكذلك الآية التي في الشورى {وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا} [الشورى: 20]. وكذلك {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا} [آل عمران: 145] قيدتها وفسرتها التي في سبحان {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ} [الإسراء: 18] قوله: {وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} أي: وهؤلاء المريدون بأعمالهم الدنيا هم فيها: أي في الدنيا لا يبخسون: أي لا ينقصون من جزائهم فيها بحسب أعمالهم لها، وذلك في الغالب، وليس بمطرد، بل إن قضت به مشيئته سبحانه، ورجحته حكمته البالغة.
وقال القاضي: معنى الآية: من كان يريد بعمل الخير الحياة الدنيا وزينتها، نوفّ إليهم أعمالهم وافية كاملة من غير بخس في الدنيا، وهو ما ينالون من الصحة والكفاف، وسائر اللذات والمنافع، فخصّ الجزاء بمثل ما ذكره، وهو حاصل لكل عامل للدنيا، ولو كان قليلاً يسيراً.
قوله: {أُوْلَئِكَ الذين لَيْسَ لَهُمْ فِى الآخرة إِلاَّ النار} الإشارة إلى المريدين المذكورين، ولا بدّ من تقييد هذا بأنهم لم يريدوا الآخرة بشيء من الأعمال المعتدّ بها، الموجبة للجزاء الحسن في الدار الآخرة، أو تكون الآية خاصة بالكفار، كما تقدّم {وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ} أي: ظهر في الدار الآخرة حبوط ما صنعوه من الأعمال التي كانت صورتها صورة الطاعات الموجبة للجزاء الأخروي، لولا أنهم أفسدوها بفساد مقاصدهم، وعدم الخلوص، وإرادة ما عند الله في دار الجزاء، بل قصروا ذلك على الدنيا وزينتها؛ ثم حكم سبحانه ببطلان عملهم فقال: {وباطل مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي: أنه كان عملهم في نفسه باطلاً غير معتدّ به، لأنه لم يعمل لوجه صحيح يوجب الجزاء، ويترتب عليه ما يترتب على العمل الصحيح.
قوله: {أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ} بيّن سبحانه أن بين من كان طالباً للدنيا فقط، ومن كان طالباً للآخرة تفاوتاً عظيماً، وتبايناً بعيداً. والمعنى: أفمن كان على بينة من ربه في اتباع النبيّ صلى الله عليه وسلم، والإيمان بالله، كغيره ممن يريد الحياة الدنيا وزينتها. وقيل: المراد بمن كان على بينة من ربه: النبي صلى الله عليه وسلم: أي أفمن كان معه بيان من الله، ومعجزة كالقرآن، ومعه شاهد كجبريل، وقد بشرت به الكتب السالفة، كمن كان يريد الحياة الدنيا وزينتها. ومعنى البينة: البرهان الذي يدلّ على الحق، والضمير في قوله: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ} راجع إلى البينة باعتبار تأويلها بالبرهان، والضمير في منه راجع إلى القرآن، لأن قد تقدّم ذكره في قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} [يونس: 38] أو راجع إلى الله تعالى. والمعنى: ويتلو البرهان الذي هو البينة شاهد يشهد بصحته من القرآن، أو من الله سبحانه. والشاهد: هو الإعجاز الكائن في القرآن، أو المعجزات التي ظهرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك من الشواهد التابعة للقرآن.
وقال الفراء قال بعضهم: {ويتلوه شاهد منه}: الإنجيل، وإن كان قبله فهو يتلو القرآن في التصديق، والهاء في {منه} لله عزّ وجلّ؛ وقيل المراد بمن كان على بينة من ربه: هم مؤمنو أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام، وأضرابه.
قوله: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى} معطوف على {شاهد}. والتقدير: ويتلو الشاهد شاهد آخر من قبله هو كتاب موسى، فهو وإن كان متقدّماً في النزول، فهو يتلو الشاهد في الشهادة، وإنما قدم الشاهد على كتاب موسى، مع كونه متأخراً في الوجود، لكونه وصفاً لازماً غير مفارق، فكان أغرق في الوصفية من كتاب موسى. ومعنى شهادة كتاب موسى، وهو التوراة أنه بشّر بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأخبر بأنه رسول من الله. قال الزجاج: والمعنى ويتلوه من قبله كتاب موسى، لأن النبي موصوف في كتاب موسى، يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل.
وحكى أبو حاتم، عن بعضهم، أنه قرأ: {ومن قبله كتاب موسى} بالنصب، وحكاه المهدوي، عن الكلبي، فيكون معطوفاً على الهاء في {يتلوه}. والمعنى: ويتلو كتاب موسى جبريل، وانتصاب {إماماً ورحمة} على الحال.
والإمام: هو الذي يؤتمّ به في الدين ويقتدى به، والرحمة: النعمة العظيمة التي أنعم الله بها على من أنزله عليهم، وعلى من بعدهم باعتبار ما اشتمل عليه من الأحكام الشرعية الموافقة لحكم القرآن، والإشارة بقوله: {أولئك} إلى المتصفين بتلك الصفة الفاضلة، وهو الكون على البينة من الله. واسم الإشارة مبتدأ وخبره {يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي: يصدّقون بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، أو بالقرآن {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب} أي: بالنبيّ أو بالقرآن. والأحزاب المتحزّبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة وغيرهم، أو المتحزّبون من أهل الأديان كلها {فالنار مَوْعِدُهُ} أي: هو من أهل النار لا محالة، وفي جعل النار موعداً إشعار بأن فيها ما لا يحيط به الوصف من أفانين العذاب، ومثله قول حسان:
أوردتموها حياض الموت صاحية *** فالنار موعدها والموت لاقيها
{فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ مّنْهُ} أي: لا تك في شك من القرآن، وفيه تعريض بغيره صلى الله عليه وسلم؛ لأنه معصوم عن الشك في القرآن، أو من الموعد {إِنَّهُ الحق مِن رَّبّكَ} فلا مدخل للشك فيه بحال من الأحوال {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} بذلك مع وجوب الإيمان به، وظهور الدلائل الموجبة له، ولكنهم يعاندون مع علمهم بكونه حقاً، أو قد طبع على قلوبهم فلا يفهمون أنه الحق أصلاً.
وقد أخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} قال: لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن أنس، في قوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا} قال: نزلت في اليهود والنصارى.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن عبد الله بن معبد، قال: قام رجل إلى عليّ فقال: أخبرنا عن هذه الآية {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا} إلى قوله: {وباطل مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} قال: ويحك، ذاك من كان يريد الدنيا لا يريد الآخرة.
وأخرج النحاس عن ابن عباس {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا} أي: ثوابها {وَزِينَتَهَا} مالها {نُوَفّ إِلَيْهِمْ} نوفر لهم بالصحة والسرور في الأهل، والمال، والولد {وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} لا ينقصون. ثم نسخها: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء} [الإسراء: 18] الآية.
وأخرج أبو الشيخ، عن السديّ، مثله.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في الآية قال: من عمل صالحاً: التماس الدنيا صوماً أو صلاة، أو تهجداً بالليل، لا يعمله إلا التماس الدنيا، يقول الله أو فيه الذي التمس في الدنيا وحبط عمله الذي كان يعمل، وهو في الآخرة من الخاسرين.
وأخرج ابن جرير، عن الضحاك، قال: نزلت هذه الآية في أهل الشرك.
وأخرج أبو الشيخ، عن الحسن، في قوله: {نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ} قال: طيباتهم.
وأخرج أبو الشيخ، عن ابن جريج، نحوه.
وأخرج أبو الشيخ، عن السديّ، في قوله: {وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا} قال: حبط ما عملوا من خير، وبطل في الآخرة، ليس لهم فيها جزاء.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في الآية، قال: هم أهل الرياء.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبو نعيم في المعرفة، عن عليّ بن أبي طالب، قال: ما من رجل من قريش إلا نزل فيه طائفة من القرآن، فقال له رجل: ما نزل فيك؟ قال: أما تقرأ سورة هود {أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ} رسول الله صلى الله عليه وسلم بينة من ربه، وأنا شاهد منه.
وأخرج ابن عساكر، وابن مردويه من وجه آخر، عنه، قال: قال رسول الله: «أفمن كان على بينة من ربه: أنا، ويتلوه شاهد منه: عليّ».
وأخرج أبو الشيخ، عن أبي العالية، في قوله: {أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ} قال: ذاك محمد صلى الله عليه وسلم.
وأخرج أبو الشيخ، عن إبراهيم، نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، وأبو الشيخ، عن محمد بن عليّ بن أبي طالب، قال: قلت لأبي: إن الناس يزعمون في قول الله سبحانه: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ} أنك أنت التالي، قال: وددت أني أنا هو، ولكنه لسان محمد صلى الله عليه وسلم.
وأخرج أبو الشيخ، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن الشاهد جبريل ووافقه سعيد بن جبير.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه من طرق، عن ابن عباس، قال: جبريل فهو شاهد من الله بالذي يتلوه من كتاب الله الذي أنزل على محمد {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى} قال: ومن قبله التوراة على لسان موسى، كما تلا القرآن على لسان محمد.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن عساكر، عن الحسن بن عليّ، في قوله: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّنْهُ} قال: محمد هو الشاهد من الله.
وأخرج أبو الشيخ، عن إبراهيم {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى} قال: ومن قبله جاء الكتاب إلى موسى.
وأخرج عبد الرزاق، وأبو الشيخ، عن قتادة {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب} قال: الكفار أحزاب كلهم على الكفر.
وأخرج أبو الشيخ، عن قتادة، قال: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب} قال: من اليهود والنصارى.


قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} أي: لا أحد أظلم منهم لأنفسهم؛ لأنهم افتروا على الله كذباً بقولهم لأصنامهم: هؤلاء شفعاؤنا عند الله. وقولهم: الملائكة بنات الله، وأضافوا كلامه سبحانه إلى غيره، واللفظ وإن كان لا يقتضي إلا نفي وجود من هو أظلم منهم كما يفيده الاستفهام الإنكاري، فالمقام يفيد نفي المساوي لهم في الظلم. فالمعنى على هذا: لا أحد مثلهم في الظلم فضلاً عن أن يوجد من هو أظلم منهم، والإشارة بقوله: {أولئك} إلى الموصوفين بالظلم المتبالغ، وهو مبتدأ، وخبره {يعرضون على ربهم} فيحاسبهم على أعمالهم، أو المراد بعرضهم: عرض أعمالهم {وَيَقُولُ الأشهاد هَؤُلاء الذين كَذَبُواْ على رَبّهِمْ} الأشهاد: هم الملائكة الحفظة، وقيل: المرسلون. وقيل: الملائكة والمرسلون والعلماء الذين بلغوا ما أمرهم الله بإبلاغه، وقيل جميع الخلائق. والمعنى: أنه يقول هؤلاء الأشهاد عند العرض: هؤلاء المعرضون أو المعروضة أعمالهم الذين كذبوا على ربهم بما نسبوه إليه ولم يصرّحوا بما كذبوا به، كأنه كان أمراً معلوماً عند أهل ذلك الموقف. قوله: {أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} هذا من تمام كلام الأشهاد أي: يقولون هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ويقولون: ألا لعنة الله على الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بالافتراء، ويجوز أن يكون من كلام الله سبحانه، قاله بعدما قال الأشهاد {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم}. والأشهاد جمع شهيد، ورجحه أبو عليّ بكثرة ورود شهيد في القرآن كقوله: {وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاء شَهِيداً} [النساء: 41]، وقيل: هو جمع شاهد كأصحاب وصاحب، والفائدة في قول الأشهاد بهذه المقالة المبالغة في فضيحة الكفار، والتقريع لهم على رؤوس الأشهاد.
ثم وصف هؤلاء الظالمين الذين لعنوا بأنهم {الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} أي: يمنعون من قدروا على منعه عن دين الله والدخول فيه {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} أي: يصفونها بالاعوجاج تنفيراً للناس عنها، أو يبغون أهلها أن يكونوا معوجين بالخروج عنها إلى الكفر، يقال بغيتك شرّاً: أي طلبته لك والحال أنهم {بالآخرة هُمْ كافرون} أي: يصفونها بالعوج، والحال أنهم بالآخرة غير مصدّقين، فكيف يصدّون الناس عن طريق الحق، وهم على الباطل البحت؟ وتكرير الضمير لتأكيد كفرهم واختصاصهم به، حتى كأن كفر غيرهم غير معتدّ به بالنسبة إلى عظيم كفرهم {أولئك} الموصوفون بتلك الصفات {لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِى الأرض} أي: ما كانوا يعجزون الله في الدنيا إن أراد عقوبتهم {وَمَا كَانَ لَهُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء} يدفعون عنهم ما يريده الله سبحانه من عقوبتهم، وإنزال بأسه بهم، وجملة {يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب} مستأنفة لبيان أن تأخير العذاب والتراخي عن تعجيله لهم، ليكون عذاباً مضاعفاً.
وقرأ ابن كثير، وابن عامر، ويزيد ويعقوب {يضعف} مشدّداً {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع} أي: أفرطوا في إعراضهم عن الحق، وبغضهم له، حتى كأنهم لا يقدرون على السمع ولا يقدرون على الإبصار، لفرط تعاميهم عن الصواب. ويجوز أن يراد بقوله: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء} أنهم جعلوا آلهتهم أولياء من دون الله، ولا ينفعهم ذلك، فما كان هؤلاء الأولياء يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون، فكيف ينفعونهم فيجلبون لهم نفعاً أو يدفعون عنهم ضرراً، ويجوز أن تكون {ما} هي المدية. والمعنى: أنه يضاعف لهم العذاب مدّة استطاعتهم السمع والبصر. قال الفراء: ما كانوا يستطيعون السمع، لأن الله أضلهم في اللوح المحفوظ.
وقال الزجاج: لبغضهم النبي صلى الله عليه وسلم. وعداوتهم له لا يستطيعون أن يسمعوا منه ولا يفهموا عنه. قال النحاس: هذا معروف في كلام العرب، يقال: فلان لا يستطيع أن ينظر إلى فلان: إذا كان ثقيلاً عليه {أولئك} المتصفون بتلك الصفات {الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} بعبادة غير الله. والمعنى: اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله، فكان خسرانهم في تجارتهم أعظم خسران {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي: ذهب وضاع ما كانوا يفترون من الآلهة التي يدّعون أنها تشفع لهم، ولم يبق بأيديهم إلا الخسران.
قوله: {لاَ جَرَمَ} قال الخليل وسيبويه: {لا جرم} بمعنى حق فهي عندهما بمنزلة كلمة واحدة، وبه قال الفراء.
وروي عن الخليل والفراء أنها: بمنزلة قولك: لا بدّ ولا محالة، ثم كثر استعمالها حتى صارت بمنزلة حقاً.
وقال الزجاج: إن جرم بمعنى كسب: أي كسب ذلك الفعل لهم الخسران، وفاعل كسب مضمر، وأنّ منصوبة بجزم. قال الأزهري: وهذا من أحسن ما نقل في هذه اللغة.
وقال الكسائي: معنى لا جرم: لا صدّ ولا منع عن أنهم في الآخرة هم الأخسرون.
وقال جماعة من النحويين: إن معنى لا جرم لا قطع قاطع {أَنَّهُمْ فِى الآخرة هُمُ الأخسرون} قالوا: والجرم: القطع، وقد جرم النخل واجترمه: أي قطعه، وفي هذه الآية بيان أنهم في الخسران قد بلغوا إلى حدّ يتقاصر عنه غيرهم، ولا يبلغ إليه، وهذه الآيات مقرّرة لما سبق من نفي المماثلة بين من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها، وبين من كان على بينة من ربه {إِنَّ الذين ءامَنُواْ} أي: صدقوا بكل ما يجب التصديق به من كون القرآن من عند الله، وغير ذلك من خصال الإيمان {وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَخْبَتُواْ إلى رَبّهِمْ} أي: أنابوا إليه، وقيل: خشعوا. وقيل: خضعوا. قيل: وأصل الإخبات: الاستواء في الخبث: وهو الأرض المستوية الواسعة فيناسب معنى الخشوع والاطمئنان. قال الفراء: إلى ربهم، ولربهم واحد {أولئك} الموصوفون بتلك الصفات الصالحة {أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون}.
قوله: {مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع} ضرب للفريقين مثلاً وهو تشبيه فريق الكافرين بالأعمى والأصمّ، وتشبيه فريق المؤمنين بالبصير والسميع، على أن كل فريق شبه بشيئين، أو شبه بمن جمع بين الشيئين، فالكافر شبه بمن جمع بين العمى والصمم، والمؤمن شبّه بمن جمع بين السمع والبصر، وعلى هذا تكون الواو في {والأصمّ} وفي {والسميع} لعطف الصفة على الصفة، كما فى قول الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام ***
والاستفهام في قوله: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ} للإنكار: يعني الفريقين، وهذه الجملة مقرّرة لما تقدّم من قوله: {أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ} وانتصاب مثلاً على التمييز من فاعل يستويان: أي هل يستويان حالاً وصفة {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} في عدم استوائهما، وفيما بينهما من التفاوت الظاهر الذي لا يخفى على من له تذكر، وعنده تفكر وتأمل، والهمزة لإنكار عدم التذكر واستبعاد صدوره عن المخاطبين.
وقد أخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن جريج، في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ} قال: الكافر والمنافق {أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ على رَبّهِمْ} فيسألهم عن أعمالهم {وَيَقُولُ الأشهاد} الذين كانوا يحفظون أعمالهم عليهم في الدنيا {هَؤُلاء الذين كَذَبُواْ على رَبّهِمْ} شهدوا به عليهم يوم القيامة.
وأخرج ابن جرير، عن مجاهد، قال: «الأشهاد: الملائكة».
وأخرج أبو الشيخ، عن قتادة، نحوه، وفي الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يدني المؤمن حتى يضع كنفه ويستره من الناس ويقرّره بذنوبه، ويقول له: أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: ربّ أعرف، حتى إذا قرّره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك قال: فإني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطي كتاب حسناته. وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد: {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين}».
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ، في قوله: {الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} قال: هو محمد يعني سبيل الله، صدّت قريش عنه الناس.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي مالك، في قوله: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} يعني: يرجون بمكة غير الإسلام ديناً.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِى الأرض} الآية قال: أخبر الله سبحانه أنه حال بين أهل الشرك وبين طاعته في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا، فإنه قال: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} وأما في الآخرة فإنه قال: {فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ * خاشعة} [القلم: 42، 43].
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وأبو الشيخ، عن قتادة، في قوله: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع} قال: ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا خيراً فينتفعوا به، ولا يبصروا خيراً فيأخذوا به.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {*أخبتوا} قال: خافوا.
وأخرج ابن جرير، عنه، قال: الإخبات: الإنابة.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وأبو الشيخ، قال الإخبات: الخشوع والتواضع.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن مجاهد، قال: اطمأنوا.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم} قال: الكافر {والبصير والسميع} قال: المؤمن.

1 | 2 | 3 | 4 | 5